الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
(3) هداية العقل، وهى هداية أعلى من هداية الحس والإلهام، فالإنسان قد خلق ليعيش مجتمعا مع غيره، وحواسّه وإلهامه لا يكفيان لهذه الحياة، فلابد له من العقل الذي يصحح له أغلاط الحواس، ألا ترى الصفراوي يذوق الحلو مرّا، والرائي يبصر العود المستقيم في الماء معوجّا.(4) هداية الأديان والشرائع، وهى هداية لابد منها لمن استرقّت الأهواء عقله، وسخّر نفسه للذاته وشهواته، وسلك مسالك الشرور والآثام، وعدا على بني جنسه، وحدث بينه وبينهم التجاذب والتدافع- فبها يحصل الرشاد إذا غلبت الأهواء العقول، وتتبين للناس الحدود والشرائع، ليقفوا عندها ويكفّوا أيديهم عما وراءها- إلى أن في غرائز الإنسان الشعور- بسلطان غيبي متسلّط على الأكوان، إليه ينسب كل ما لا يعرف له سببا، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة، وهو بعقله لا يدرك ما يجب لصاحب هذا السلطان، ولا يصل فكره إلى ما فيه سعادته في هذه الحياة فاحتاج إلى هداية الدين التي تفضل اللّه بها عليه ووهبه إياها.وإلى تلك الهدايات أشار الكتاب الكريم في آيات كثيرات كقوله: {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} أي طريقي الخير والشر والسعادة والشقاء. وقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} أي أرشدناهم إلى طريق الخير والشر فاختاروا الثاني الذي عبر عنه بالعمى.وهناك نوع آخر من الهداية وهو المعونة والتوفيق للسير في طريق الخير، وهى التي أمرنا اللّه بطلبها في قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} إذ المراد- دلّنا دلالة تصحبها من لدنك معونة غيبية تحفظنا بها من الوقوع في الخطأ والضلال.وهذه الهداية خاصة به سبحانه لم يمنحها أحدا من خلقه، ومن ثمّ نفاها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} وأثبتها لنفسه في قوله: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ}.أما الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق، مع بيان ما يعقب ذلك من السعادة والفوز والفلاح، فهي مما تفضل اللّه بها على خلقه ومنحهموها، ومن ثم أثبتها للنبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.هذا- والصراط المستقيم هو جملة ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة من عقائد وأحكام وآداب وتشريع ديني كالعلم الصحيح باللّه والنبوة وأحوال الكون وأحوال الاجتماع- وقد سمّى هذا صراطا مستقيما تشبيها له بالطريق الحسي، إذ كل منهما موصل إلى غاية، فهذا سير معنوي يوصل إلى غاية يقصدها الإنسان، وذاك سير حسي يصل به إلى غاية أخرى.وقد أرشدنا اللّه إلى طلب الهداية منه، ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا بعد أن نبذل ما نستطيع من الجهد في معرفة أحكام الشريعة، ونكلف أنفسنا الجري على سننها، لنحصل على خيري الدنيا والآخرة.{صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} الذين أنعم اللّه عليهم هم النبيون والصدّيقون والصالحون من الأمم السالفة، وقد أجملهم هنا وفصلهم في مواضع عدة من الكتاب الكريم بذكر قصصهم للاعتبار بالنظر في أحوالهم، فيحملنا ذلك على حسن الأسوة فيما تكون به السعادة، واجتناب ما يكون طريقا إلى الشقاء والدمار.وقد أمرنا باتباع صراط من تقدّمنا، لأن دين اللّه واحد في جميع الأزمان: فهو إيمان باللّه ورسله واليوم الآخر، وتخلّق بفاضل الأخلاق وعمل الخير وترك الشر، وما عدا ذلك فهو فروع وأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلى آخر الآية.والمغضوب عليهم هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه اللّه لعباده فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريّا، وانصرفوا عن النظر في الأدلة تقليدا لما ورثوه عن الآباء والأجداد- وهؤلاء عاقبتهم النكال والوبال في جهنم وبئس القرار.والضالون هم الذين لم يعرفوا الحق، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة، أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحق، فهم تائهون في عماية لا يهتدون معها إلى مطلوب، تعترضهم الشبهات التي تلبس الحق بالباطل، والصواب بالخطأ إن لم يضلّوا في شئون الدنيا ضلوا في شئون الحياة الأخرى، فمن حرم هدى الدين ظهر أثر الاضطراب في أحواله المعيشية وحلت به الرزايا، والذين جاءوا على فترة من الرسل لا يكلّفون بشريعة، ولا يعذبون في الآخرة لقوله تعالى: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}.وهذا رأى جمهرة العلماء، وترى فئة منهم أن العقل وحده كاف في التكليف، فمتى أوتيه الإنسان وجب عليه النظر في ملكوت السموات والأرض والتدبر والتفكر في خالق الكون، وما يجب له من عبادة وإجلال، بقدر ما يهديه عقله ويصل إليه اجتهاده، وبذلك ينجو من عذاب النار يوم القيامة، فإن لم يفعل ذلك كان من الهالكين.آمين اسم بمعنى استجب، وفيه لغتان: المد كما قال شاعرهم:
والقصر كما قال الآخر: أمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا.وروى في الأثر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «لقنني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة، وقال إنه كالختم على الكتاب»، وأوضح ذلك علىّ كرّم اللّه وجهه فقال: آمين خاتم رب العالمين، ختم به دعاء عبده- يريد أنّه كما يمنع الخاتم الاطلاع على المختوم والتصرف فيه، يمنع آمين الخيبة عن دعاء العبد.وهذا اللفظ ليس من القرآن إذ لم يثبت في المصاحف، ولا يقوله الإمام في الصلاة، لأنه الداعي كما قال الحسن البصري، والمشهور عن أبي حنيفة أنه يقوله ويخفيه وفاقا لرواية أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وعند الشافعية يجهر به، كما رواه وائل بن حجر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «كان إذا قرأ {ولا الضالين}، قال: آمين ورفع صوته».ويرى بعض علماء الآثار المصرية في العصر الحاضر أن كلمة آمين معناها اللّه، فكأنها ذكرت في آخر الفاتحة للختم باسمه تعالى إشارة إلى أن المرجع كله إليه، ويعقدون موازنة بين مينو وآمون وآمين.ويرى الثقات من علماء اللغات السامية رأيهم، ويقولون: إنها ذكرت آخر الفاتحة للترنم بها بعد قراءة السورة التي تضمنت الإشارة إلى أغراض الكتاب الكريم.ويؤيدون رأيهم بأن المزامير ختمت بكلمة سلاه للترنم بها على هذا النحو- ويكون المعنى العام- إنا نتوجه إليك يا إلهنا فإليك المرجع والمصير. اهـ. باختصار.
ويسأل عن التكرير في قوله عز وجل {الرحمن الرحيم} فروي عن ابن عباس أنه قال {الرحمن الرحيم} اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر فالرحمن الرقيق والرحيم العاطف على خلقه بالرزق قال محمد بن كعب القرظي الرحمن بخلقه الرحيم بعباده فيما ابتداهم به من كرامته وحجته.وقال عطاء الخراساني كان الرحمن فلما اختزل الرحمن من أسمائه صار الرحمن الرحيم وقال العرزمي الرحمن بجميع الخلق الرحيم بالمؤمنين وقال أبو عبيده هما من الرحمة كقولهم ندمان ونديم وقال قطرب يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد وهذا قول حسن وفي التوكيد أعظم الفائدة وهو كثير في كلام العرب يستغني عن الاستشهاد.والفائدة سعيد في ذلك ما قاله محمد بن يزيد أنه تفضل بعد تفضل وإنعام بعد إنعام وتقوية لمطامع الداعين ووعد لا يخيب آمله وقول العرزمي أيضا حسن لأن فعلان فيه معنى المبالغة فكأنه والله أعلم الرحمن بجميع خلقه ولهذا لم يقع إلا لله تعالى لأن معناه الذي وسعت رحمته كل شيء ولهذا قدم قبل الرحيم وصار الرحيم أولى من الراحم لأن الرحيم إلزام في المدح لأنه يدل على أن الرحمة لازمه له غير مفارقة والراحم يقع لمن رحم مرة واحدة.وقال أحمد بن يحيى الرحيم عربي والرحمن عبراني فلهذا جمع بينهما وهذا القول مرغوب عنه وروى مطر عن بكر عن قتادة في قوله {بسم الله الرحمن الرحيم} قال مدح نفسه وهذا قول حسن قال أبو العباس النعت قد يقع للمدح كما تقول قال جرير الشاعر.تفسير سورة الفاتحة:1- وقوله تعالى: {الحمد لله} الفرق بين الحمد والشكر أن الحمد أعم لأنه يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر والجزاء والشكر مخصوص بما يكون مكافأة قد لمن أولاك معروفا فصار الحمد أثبت في الآية لأنه يزيد على الشكر ويقال الحمد خبر وسبيل الخبر أن يفيد فما الفائدة في هذا والجواب عن هذا أن سيبويه قال إذا قال الرجل الحمد لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قوله حمدت الله حمدا إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله تعالى والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله تعالى.قال ابن كيسان وهذا كلام حسن جدا لأن قولك الحمد لله مخرجه في الإعراب مخرج قولك المال لزيد ومعناه انك أخبرت به وأنت تعتمد أن تكون حامدا لا مخبرا بشيء ففي أخبار المخبر بهذا إقرار منه بان الله تعالى مستجوبه وفي على خلقه فهو احمد من يحمده إذا اقر بان الحمد له فقد آل المعنى المرفوع إلى مثل المعنى المنصوب وزاد عليها بان جعل الحمد الذي يكون عن فعله وفعل غيره لله تعالى وقال غير سيبويه إنما يتكلم بهذا تعرضا لعفو الله تعالى ومغفرته وتعظيما له وتمجيدا فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال وفي الحديث: «من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين». وقيل أن مدحه نفسه جل وعز وثناءه عليه ليعلم ذلك عباده فالمعنى على هذا قولوا الحمد لله وإنما عيب مدح الآدمي نفسه لأنه ناقص وإن قال أنا جواد فثم بخل وإن قال أنا شجاع فثم جبن والله تعالى منزه من ذلك فإن الآدمي إنما يدح كل نفسه ليجتلب منفعة ويدفع مضرة والله تعالى غني عن هذا.
|